• أوروبا تدور في حلقة مفرغة للانعتاق من أزمة الديون السيادية

    11/12/2011

    أوروبا تدور في حلقة مفرغة للانعتاق من أزمة الديون السيادية

     

    رجل يبيع كتبا مستعملة في وسط مدينة روما أمس الأول. وعارضت ألمانيا انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ، وذلك على خلفية خلاف بريطانيا مع معظم دول الاتحاد الأوروبي بشأن آليات التصدي لأزمة اليورو. رويترز
     
     
    خرجت القمة الأوروبية أمس الأول باتفاق مبدئي على مجموعة في التدابير الهادفة إلى التصدي لأزمة اليورو تحت عنوان اعتماد معاهدة أوروبية جديدة تعزز الوحدة النقدية وتتطلب صرامة في ضبط الموازنات العامة، وتنص على عقوبات آلية للدول التي لا تحترم ذلك، كما أنها تدعو إلى جعل احترام الموازنات العامة ضمن دساتير دول الاتحاد الأوروبية.

    وباتخاذهم هذه القرارات يأمل القادة الأوروبيون، باستثناء بريطانيا التي رفضت المس بنظامها المالي، أن تكون هذه الإجراءات كافية لإقناع المصرف المركزي الأوروبي بالمزيد من التدخل في شراء سندات خزانة الدول الأوروبية لتخفيف الضغوط على الديون السيادية لهذه الدول.
    وبالقرارات التي اتخذوها أظهروا إرادة سياسية لمواصلة البناء الأوروبي وللحفاظ على اليورو ودعمه، والتضامن في كسر دائرة أزمة الديون السيادية المفرغة.
    ولكن الاتفاق الذي تواصلوا إليه هو مبدئي، والمواقف التي أعلنوا عنها جاءت غامضة وتتطلب الكثير في الأجوبة، وهذا ما سيعملون عليه في المرحلة المقبلة التي ستكون قاسية جداً في الناحية الاجتماعية.
    الخوف في الإنجاز الاجتماعي، فتطبيق الاتفاق سيؤدي إلى سياسات تقشفية صارمة في العديد من الدول. ويأتي التطبيق في وصلة من الانكماش الاقتصادي. ويرى الخبراء الاقتصاديون والماليون أن هذا التوقيت قد يؤدي إلى حدوث انفجارات اجتماعية خطيرة.
    ففي اليونان حيث تتوالى الاضطرابات احتجاجاً على الخطط التقشفية، وعلى الرغم من إلغاء 50 في المائة من الديون فإن الناتج الداخلي الخام قد تراجع بنسبة 5 في المائة في الفصل الثالث في العام الجاري. كما أنه تراجع بنسبة 0.6 في المائة في البرتغال والإجراءات التقشفية ستزيد الوضع انفجاراً، ففي العديد من الثانويات البرتغالية اكتشف الأساتذة أن تزايد حالات الإغماء في صفوف التلامذة ناتج عن عدم تناول هؤلاء لوجبات الطعام في منازلهم وتحول الأساتذة إلى مسعفين اجتماعيين يطلبون المساعدات الغذائية في مراكز التموين المركزية ليوزعوها على أهالي التلامذة.
    إيطاليا، التي اتخذت حكومتها الجديدة تدابير تقشفية صارمة بـ 20 مليار يورو، وخلال الإعلان عن هذه الإجراءات، ولدى الوصول إلى التضحيات المطلوبة من الإيطاليين في مجال تعويضات رواتب نهاية الخدمة، انفجرت إلزا فورينو وزيرة الشؤون الاجتماعية بالبكاء. علماً أن إيطاليا، وفي خلال هذه التضحيات، ستتمكن اعتباراً من العام المقبل من سداد ديونها. وسيكون لديها فائض في ميزان مدفوعاتها، وهذا يعني أن إيطاليا لم تعد تشكل عبئا على اليورو، بل إنها تسهم في تخفيف الضغوط على سندات الخزانة في خلال خفض الفوائد إلا إذا حصلت ثورة اجتماعية وانفجر الشارع على غرار ما يحصل في اليونان. يقول الخبير الاقتصادي الدكتور شبل السبع لـ "الاقتصادية": الاضطرابات والتظاهرات مستمدة أو ستعرقل عجلة الاقتصاد.
    ويتخوف المراقبون من أن تؤدي التدابير التقشفية إلى اندلاع ثورات اجتماعية، تنطلق في الأوضاع الاقتصادية في منطقة اليورو، إذ إنها تأتي ضمن أجواء من الركود الاقتصادي. وأيضاً وفق احتياجات العديد من دول منطقة اليورو لإعادة هيكلة لاقتصادياتها، وهذه المسألة تتطلب سنوات طويلة، وكان يجب أن تتم في ظروف اقتصادية أفضل، وليس في مرحلة انكماش كما قال الخبير المالي نخلة زيدان لإذاعة مونت كارلو الدولية.
    وسياسة عصر النفقات في ظل الركود الاجتماعي قد تدفع بالعديد في الدول الأوروبية، غير القادرة على مواجهة أزمة اجتماعية المعطوفة على أزمة الديون إلى الخروج في منطقة اليورو لكي تتمكن من تخفيض قيمة عملائها وجعل اقتصاداتها أكبر قدرة على المنافسة الاقتصادية.
    فاليورو القوي، والقوانين الأوروبية، تجعل من اليونان بلداً سياحياً غالياً جداً مقارنة بجارتيها تركيا وكرواتيا.
    وخروج اليونان في منطقة اليورو وتخفيض قيمة الدراخما يجعل بلاد الإغريق قادرة على المنافسة، ويُعطي لليونانيين الانطباع بأن التضحيات التي يقدمونها في البداية ستؤتي ثمارها، على المدى البعيد وستعيد إلى البلاد النمو الاقتصادي والآمال في غدٍ أفضل.
    كثير من المراقبين الاقتصاديين يعتبر أن الاتفاق الذي تم التوصل إليه يهدف لطمأنة الأسواق ولإزالة الشكوك حول قدرة منطقة اليورو، ومعها بقية دول الاتحاد الأوروبي باستثناء بريطانيا، على حل مشكلة اليورو.
    ويقول الدكتور شارك يبلوز أستاذ الاقتصاد في المعهد الجامعي للدراسات الدولية العليا، إن الاتفاق هو لإرضاء المصرف المركزي الأوروبي لكي يتدخل بكثافة أكبر في شراء سندات الخزانة في دول منطقة اليورو لأن مفتاح حل أزمة العملة الأوروبية الواحدة بيده.
    ورئيس المصرف ماريو دراغي قال قبيل القمة "أعطوني الحجة لكي أتدخل" والتوجه نحو الوحدة النقدية الأوروبية والقواعد الصارمة في موازنات دول منطقة اليورو تسمح للمصرف المركزي بالتدخل لشراء سندات الخزانة لدول اليورو، ولكن ما تم التوصل إليه في بروكسل أمس الأول هو اتفاق مبدئي تنقصه التفاصيل الدقيقة وهي مهمة جداً.
    ومن المتوقع أن يتم إنجازها بعد ثلاثة أشهر في شهر آذار (مارس) المقبل، وعندما يبدأ البحث بالتفاصيل لا يعرف ما إذا كانت كل الدول الأوروبية ستوافق عليها.
    والسؤال الذي يُطرح هو هل أن المصرف المركزي الأوروبي سيتدخل في الأسواق بسرعة. فرئيسه يخشى أن يُفسر تدخله بقوة على أنه تشجيع للدول على الاستدانة من جديد وارتكاب الأخطاء ذاتها. وحتى الآن لا أحد يعلم ما إذا كان المصرف سيتدخل بسرعة وبكثافة لشراء سندات خزانة دول منطقة اليورو، قبل أن تتبنى دول منطقة اليورو القاعدة الذهبية التي تمنع أن يتخطى العجز في الموازنة العامة نسبة الـ 3 في المائة في الناتج الداخلي الخام وأيضاً ألا يزيد الدين العام على 60 في المائة من هذا الناتج.
    كما أنَّ السؤال الذي يُطرح هو إلى أي درجة يُمكنُ للمصرف المركزي الأوروبي التدخل دون الإخلال بدوره الإنساني ألا وهو الحيلولة دون زيادة التضخم على 3 في المائة، إضافة إلى طبع العملات.
    كما أن من المسائل التي تطرح التساؤلات هي قضية دعوة المصرف المركزي الأوروبي لإدارة صندوق الاستقرار الأوروبي وآلية المساعدة الأوروبية التي ستليه وتحل محله في العام المقبل. وهذه المسألة في حاجة إلى توضيح خاصة أنّه سبق للمصرف المركزي الأوروبي أن رفض منح صندوق الاستقرار الأوروبي صفة المصرف لكي لا يقرضه الأموال.
    ومن القضايا التي لا تزال غامضة وتطرح التساؤلات ما أعلنه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أن دول منطقة اليورو ستسهم في صندوق النقد الدولي بـ 200 مليار يورو.
    والدول الأوروبية في منطقة اليورو مهددة بتخفيض تصنيفها الائتماني، بما فيها ألمانيا وفرنسا وهما أكبر بلدان أوروبيين فمن أين ستأتي الدول الأوروبية في منطقة اليورو بهذا المبلغ والمطلوب منها تخفيض العجز في الميزانيات العامة وليس الاستدانة لزيادته. والعجز المتوقع في الميزانية الفرنسية العام المقبل 4.5 في المائة والطموح الفرنسي يهدف إلى تخفيضه إلى 3 في المائة في عام 2013.
    والعملية الحسابية البسيطة تشير إلى أن 7.5 في المائة من العجز، أي في الزيادة في المديونية العامة تضاف إلى 87 في المائة من الدين الفرنسي العام قياساً على الناتج الداخلي الخام وفي ظل توقع ركود اقتصادي، هذه العملية توضح استحالة مد فرنسا صندوق النقد الدولي بالأموال إلا إذا كانت تريد زيادة ديونها. والقمة الأوروبية بقراراتها تطلب من الدول تدابير صارمة.
    كثير من المراقبين يعرب عن اعتقاده أن القمة الأوروبية أصدرت قرارات للتصدي لأزمة اليورو تتطلب الوقت على المديين المتوسط والبعيد. ويدعو هؤلاء إلى الانتظار خلال الأسابيع المقبلة لمعرفة ما إذا كانت القرارات الصادرة عن الاتفاق الذي تم التوصل إليه، بالإجماع باستثناء بريطانيا، ستطمئن الأسواق وستخفف الضغوط عن الفوائد على الديون الأوروبية. الغموض أيضاً يطول التدابير ذات المصداقية لإطلاق النمو الاقتصادي. ولا يكفي الإشارة إليها لطمس حقيقة أن الإجراءات الأساسية التي تنص على قرارات القمة تأتي في ظروف اقتصادية قد تدفع بالكثير من الاقتصادات الأوروبية في منطقة اليورو نحو المزيد من الركود والبطالة والأزمات الاجتماعية التي أشرنا إليها أعلاه.
    إذا كانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قد خرجت منتصرة في القمة بعد أن تمكنت مع حليفها الفرنسي نيكولا ساركوزي فرض اتفاق على الدول الأوروبية باستثناء بريطانيا، فإن هذا الانتصار قد يكون قصير الأمد. فالمعارضة الداخلية الألمانية ترى أن الاتفاق على معاهدة جديدة ليس مرضيا. ولم يستبعد غي فيرهوفستاد رئيس كتلة الليبراليين في البرلمان اللجوء إلى محكمة العدل الأوروبية إذا لم تتم الإشارة إلى ضمانات واضحة حول احترام القواعد المعمول بها في الاتحاد الأوروبي بما في ذلك الرقابة الديمقراطية.
    وأخيراً لا بد من الإشارة إلى أن قرار القادة الأوروبيين باعتماد معاهدة جديدة دون موافقة بريطانيا يكون قد فرق قاعدة الإجماع في الاتحاد الأوروبي. وقد تكون هذه المسألة هي الأخطر من الناحية السياسية لأنها قد تُفجر الاتحاد الأوروبي سياسياً.

حقوق التأليف والنشر © غرفة الشرقية